سورة الحجر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يُؤذِنُ بكون السائلِ تبعاً لهم في ذلك، دليلٌ على أنه إخبارٌ بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به وقع إجابةً لدعائه، أي إنك من جملة الذين أُخّرت آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه حكمةُ التكوين، فالفاءُ ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبارِ المذكور به، كما في قوله:
فإن ترحم فأنت لذاك أهل ***
فإنه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثة، بل هي لربط الإخبار بتلك الأهليةِ للرحمة بوقوعها، وأن استنظاره كان طلباً لتأخير الموتِ إذ به يتحقق كونُه من جملتهم، لا لتأخير العقوبه كما قيل، ونظمه في ذلك في سلك من أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحِق من الثقلين لا يلائم مقامَ الاستنظار مع الحياة، ولأن ذلك التأخيرَ معلومٌ من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث كما عرفته، وفي سورة الأعراف: {قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين} بترك التوقيتِ والنداءِ، والفاء في الاستنظار والإنظارِ تعويلاً على ما ذكر هاهنا، وفي سورة ص، فإن إيراد كلامٍ واحد على أساليبَ متعددةٍ غيرُ عزيزٍ في الكتاب العزيز، وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريمِ لا بد أن يكون له مقامٌ يقتضيه مغايرٌ لمقام غيره، وأن ما حُكي من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابُه لم يقع إلا دَفعةً، فمقامُ المجاورة إن اقتضى أحدَ الأساليبِ المذكورة فهو المطابقُ لمقتضى الحال والبالغُ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصرٌ عن رتبة البلاغة فضلاً عن الارتقاء إلى معالم الإعجازِ، فقد مر تحقيقه بتوفيق الله تعالى في سورة الأعراف.
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وهو وقتُ النفخة الأولى التي علم أنه يَصْعَق عندها من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، ويجوز أن يكون المرادُ بالأيام واحداً، والاختلافُ في العبارات لاختلاف الاعتباراتِ، فالتعبيرُ بيوم البعث لأن غرض اللعين يتحقق، وبيوم الدين لما ذُكر من الجزاء، وبيوم الوقت المعلومِ لما ذُكر أو لاستئثاره تعالى بعلمه فلعل كلاًّ من هلاك الخلق جميعاً وبعثهم وجزائِهم في يوم واحد، يموت اللعينُ في أوله ويُبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته. يُروى أن بين موتِه وبعثه أربعين سنةً من سِني الدنيا مقدارَ ما بين النفختين، ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى أنه قال: قدِمتُ المدينة أريد أميرَ المؤمنين عمرَ رضي الله تعالى عنه، فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعبُ الأحبار فيها يحدث الناس وهو يقول: لما حضر آدمَ عليه الصلاة والسلام الوفاةُ قال: يا رب سيشمت بي عدوي إبليسُ إذا رآني ميتاً وهو مُنْظَرٌ إلى يوم القيامة، فأجيب أنْ يا آدمُ إنك سترِد إلى الجنة ويؤخَّر اللعينُ إلى النظرة ليذوقَ ألمَ الموتِ بعدد الأولين والآخِرين، ثم قال لملك الموت: صِفْ كيف تذيقه الموتَ، فلما وصفه قال: يا رب حسبي.
فضجّ الناسُ وقالوا: يا أبا إسحاقَ كيف ذلك؟ فأبى، فألحّوا فقال: يقول الله سبحانه لملك الموت عقِبَ النفخةِ الأولى: قد جعلت فيك قوةَ أهلِ السموات السبع، وأهلِ الأرضينَ السبعِ، وإني ألبستُك اليوم أثوابَ السخط والغضب كلَّها، فانزِلْ بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليسَ فأذِقْه الموتَ واحمِلْ عليه فيه مرارةَ الأولين والأخِرين من الثقلين أضعافاً مضاعفةً، وليكن معك من الزبانية سبعون ألفاً قد امتلأوا غيظاً وغضباً، وليكن مع كل منهم سلسلةٌ من سلاسل جهنم وغُلٌّ من أغلالها، وأنزل روحَه المُنتنَ بسبعين ألفَ كلاب من كلاليبها، ونادِ مالكاً ليفتح أبواب النيران فينزل ملكُ الموت بصورة لو نظر إليها أهلُ السموات والأرضين لماتوا بغتةً من هولها، فينتهي إلى إبليس فيقول: قف لي يا خبيثُ لأُذيقنّك الموت كم من عمر أدركتَ وقرونٍ أضللتَ وهذا هو الوقتُ المعلوم، قال: فيهرُب اللعين إلى المشرِق فإذا هو بملك الموت بين عينيه، فيهرُب إلى المغرِب فإذا هو به بين عينيه، فيغوص البحارَ فتنز منه البحارُ فلا تقبله، فلا يزال يهرُب في الأرض ولا محيصَ له ولا ملاذ، ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدمَ ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط في آدمُ عليه الصلاة والسلام، وقد نَصبت له الزبانية الكلاليبَ وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب، ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى، ويقال لآدمَ وحواءَ: اطَّلِعا اليوم إلى عدوكما كيف يذوق الموت، فيطّلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان: ربنا أتممتَ علينا نعمتك.


{قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} الباء للقسم وما مصدريةٌ والجواب {لأزَيّنَنَّ لَهُمْ} أي أقسم بإغوائك إيايَ لأزينن لهم المعاصيَ {فِى الأرض} أي في الدنيا التي هي دارُ الغرور كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} وإقسامُه بعزة الله المفسَّرةِ بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامَه بهذا، فإنه فرْعٌ من فروعها وأثرٌ من آثارها، فلعله أقسم بهما جميعاً فحُكي تارة قسمُه بهذا وأخرى بذاك، أو للسببية، وقوله: لأزينن، جوابُ قسمٍ محذوف، والمعنى بسبب تسبُّبِك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثلَ ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم بتزيين المعاصي وتسويلِ الأباطيل، والمعتزلةُ أوّلوا الإغواءَ بالنسبة إلى الغيّ أو التسببب له لأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام، واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطِه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علِم منه وممن تبِعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار، أُمهل أم لم يُمهَل، وأن في إمهاله تعويضاً لمن خالفه لاستحقاق مزيدِ الثواب {وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لأحمِلنّهم على الغواية.
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} الذين أخلصتَهم لطاعتك وطهَّرتَهم من الشوائب، فلا يعملُ فيهم كيدي، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا نفوسَهم لله تعالى.


{قَالَ هَذَا صراط} أي حقٌّ {عَلَىَّ} أن أراعيَه {مُّسْتَقِيمٍ} لا عوجَ فيه، والإشارةُ إلى ما تضمّنه الاستثناءُ وهو تخلّصُ المخْلَصين من إغوائه، أو الإخلاصُ على معنى أنه طريقٌ يؤدي إلى الوصول من غير اعوجاج وضلالٍ، والأظهرُ أن ذلك لِما وقع في عبارة إبليسَ حيث قال: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الآية، وقرئ: {على} من علو الشرف.
{إِنَّ عِبَادِى} وهم المشار إليهم بالمخلَصين {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} تسلطٌ وتصرفٌ بالإغواء {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} وفيه، مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين، تفخيمٌ لشأن المخلَصين وبيانٌ لمنزلتهم ولانقطاع مخالبِ الإغواء عنهم وأن إغواءَه للغاوين ليس بطريق السلطانِ بل بطريق اتباعِهم له بسوء اختيارِهم.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} أي موعدُ المتبعين أو الغاوين، والأولُ أنسبُ وأدخلُ في الزجر عن اتباعه، وفيه دلالةٌ على أن جهنم مكانُ الوعد وأن الموعودَ مما لا يوصف في الفظاعة {أَجْمَعِينَ} تأكيدٌ للضمير أو حالٌ، والعامل فيها الموعِدُ إن جعل مصدراً على تقدير المضاف، أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان.
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يدخلونها لكثرتهم، أو سبعُ طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغَواية والمتابعة، وهي: جهنم ثم لظَى ثم الحُطمة ثم السعير ثم سقرُ ثم الجحيمُ ثم الهاوية {لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ} من الأتباع أو الغواة {جُزْء مَّقْسُومٌ} حزبٌ معينٌ مُفرَزٌ من غيره حسبما يقتضيه استعدادُه، فأعلاها للموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار، والحُطَمةُ لعبدة الأصنام، وسقَرُ لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحّدين، ولعل حصرها في السبع لانحصار المهلِكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضياتِ القوة الشهوية والغضبية، وقرئ بضم الزاي وبحذف الهمزة وإلقاءِ حركتها إلى ما قبلها مع تشديدها في الوقف والوصل، ومنهم حال، من جزء أو من ضميره في الظرف لا في مقسوم، لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفَها.
{إِنَّ المتقين} من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر {فِى جنات وَعُيُونٍ} أي مستقرون فيها خالدين، لكل واحد منهم جنةٌ وعينٌ، أو لكل منهم عدةٌ منهما كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وقرئ بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8